الخطبة الأولى (فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا) (115) طه
إخوة الإسلام
لقاؤنا اليوم -إن شاء الله تعالى- مع هذه الآية الكريمة من كتاب الله العزيز، نتلوها، ونتدبر معانيها، ونتأمل مراميها، ونرتوي من معينها الصافي، ونرتشف من رحيقها المختوم، وقد جاء في تفسيرها عند الطبري (بتصرف): (ولقد وصينا آدم، وقلنا له: (إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ)، ووسوس إليه الشيطان، فأطاعه، فترك عهدي، وخالف أمري، ولم يصبر، ولم يحافظ على ما أمره الله تبارك وتعالى بحفظه، والتمسك به، فحلّ به من عقوبتي ما حلّ، فلو كان له عزم ما أطاع عدوّه الذي حسده، وأبي أن يسجد له، وعصى الله الذي كرّمه وشرّفه، وأمر ملائكته فسجدوا له). وفي سنن الترمذي بسند صححه: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَسَقَطَ مِنْ ظَهْرِهِ كُلُّ نَسَمَةٍ هُوَ خَالِقُهَا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَجَعَلَ بَيْنَ عَيْنَيْ كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ وَبِيصًا مِنْ نُورٍ ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى آدَمَ فَقَالَ أَيْ رَبِّ مَنْ هَؤُلاَءِ قَالَ هَؤُلاَءِ ذُرِّيَّتُكَ فَرَأَى رَجُلاً مِنْهُمْ فَأَعْجَبَهُ وَبِيصُ مَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ فَقَالَ أَيْ رَبِّ مَنْ هَذَا فَقَالَ هَذَا رَجُلٌ مِنْ آخِرِ الأُمَمِ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ يُقَالُ لَهُ دَاوُدُ. فَقَالَ رَبِّ كَمْ جَعَلْتَ عُمْرَهُ قَالَ سِتِّينَ سَنَةً قَالَ أَيْ رَبِّ زِدْهُ مِنْ عُمْرِي أَرْبَعِينَ سَنَةً. فَلَمَّا انْقَضَى عُمْرُ آدَمَ جَاءَهُ مَلَكُ الْمَوْتِ فَقَالَ أَوَلَمْ يَبْقَ مِنْ عُمْرِي أَرْبَعُونَ سَنَةً قَالَ أَوَلَمْ تُعْطِهَا ابْنَكَ دَاوُدَ قَالَ فَجَحَدَ آدَمُ فَجَحَدَتْ ذُرِّيَّتُهُ وَنَسِيَ آدَمُ فَنَسِيَتْ ذُرِّيَّتُهُ وَخَطِئَ آدَمُ فَخَطِئَتْ ذُرِّيَّتُهُ».
أيها المسلمون
الإسلام دين لا يخاطب الناس باعتبارهم ملائكة لا يخطئون، وإنما يعاملهم بما جُبلوا عليه من الطاعة والمعصية، والنسيان والخطأ، وقوة العزيمة وفتورها، وأمر الإسلام الإنسان أن يتدارك نفسَه، وأن يبادر بالندم والتوبة، وتصحيح أخطائه، والرجوع للحق،
وفي هذه الآية الكريمة: يذكرنا الله تعالى بأن النسيان وضعف العزيمة هما سبب هبوط المرء إلى المعصية، وأن التذكر وانعقاد العزم، هما سبب لصعوده إلى الرشد والخير،
كما يتبين لنا من خلال الآية الكريمة: أن النسيان من طبيعة الانسان، فالله تعالى خلق البشر ،وجعل في طبعهم النسيان، قال ابن عباس: “إنما سمي الإنسان إنسان، لأنه عهد إليه فنسي ،ولذلك، فلا يلام الانسان إذا نسي، لأن ذلك من طبعه، ومما جبل عليه، ففي صحيح البخاري :(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ «إِذَا نَسِيَ فَأَكَلَ وَشَرِبَ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ»، وفي سنن البيهقي: (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِذَا نَسِيَ أَحَدُكُمْ صَلاَةً فَذَكَرَهَا وَهُوَ فِي صَلاَةٍ مَكْتُوبَةٍ فَلْيَبْدَأْ بِالَّتِي هُوَ فِيهَا، فَإِذَا فَرَغَ صَلَّى الَّتِي نَسِيَ»، وفي سنن ابن ماجه: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ». كما رفع الله الإثم عن الناسي، فقال في دعاء المؤمنين: (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) [البقرة:286]،
فالنسيان طبيعة بشرية، ولا يعصم منه إنسان، وقد قال الله تعالى لنبيه ﷺ: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [الأنعام:68]، وفي الصحيحين: (قَالَ عَبْدُ اللَّهِ صَلَّى النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – – قَالَ إِبْرَاهِيمُ لاَ أَدْرِي زَادَ أَوْ نَقَصَ – فَلَمَّا سَلَّمَ قِيلَ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَحَدَثَ فِي الصَّلاَةِ شَيْءٌ قَالَ «وَمَا ذَاكَ». قَالُوا صَلَّيْتَ كَذَا وَكَذَا. فَثَنَى رِجْلَيْهِ وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ، فَلَمَّا أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ قَالَ «إِنَّهُ لَوْ حَدَثَ فِي الصَّلاَةِ شَيْءٌ لَنَبَّأْتُكُمْ بِهِ، وَلَكِنْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ، فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِى، وَإِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلاَتِهِ فَلْيَتَحَرَّى الصَّوَابَ، فَلْيُتِمَّ عَلَيْهِ ثُمَّ يُسَلِّمْ، ثُمَّ يَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ»
أيها المسلمون
وفي قوله تعالى: (وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا) (115) طه، فالإنسان مع مرور الأيام، يأخذ حماسه في النقص والفتور، فتضعف همته، وتخور عزيمته، والإسلام أمرنا أن نكون من أصحاب الهمم العالية، والإرادات المتقدة المتوهجة، والعزيمة الراسخة الثابتة، والثقة بالله تعالى، والتوكل عليه، قال الله تعالى :(وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (7):(10) الشمس، وفي السنن: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :«إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَرِيمٌ يُحِبُّ مَعَالِىَ الأَخْلاَقِ وَيَكْرَهُ سَفْسَافَهَا»،
فصاحب الإرادة والعزيمة القوية يصل إلى القمة، ويرتقي سلم المجد، وعلى العكس من ذلك: فمن ليس له إرادة ولا عزيمة، فلا يمكن بحال من الأحوال أن يتقدم، ولو خطوة إلى الأمام، فهو مصاب بالإحباط والكسل، والفتور.
والعزيمة والإرادة، والقوة واليقين، هي أعمدةٌ أربعةٌ، لبنائك الشَّاهق، فكُنْ متفائلًا، وقويًّا ومُصمِّمًا على الهدف، وخُذْ بالأسباب، فذاك تفكيرُ المؤمن القوي، وصَمِّم على غايتك، والوصول إلى هدفك، فإنها سبيلُ الفرد الفاعل، والطريق سالكةٌ للنجاح لكل من أراد، وأَخَذَ بالوسائل الضرورية.
فيجب أن نحصن أنفسنا بقوة الإرادة والعزيمة، والإصرار والتصميم، حتى لا ندع اليأس والإحباط والملل والتخوف والضعف، يسيطر على معنوياتنا الذاتية، التي تنبع من داخلنا، فمن أراد الفوز والنجاح في الدنيا والآخرة، وفي حياته العلمية والعملية، فعليه أن يقوي إرادته وعزيمته، حتى يصل إلى الهدف المنشود، قال تعالى: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) (133) آل عمران، فالمسارعة تعني قوة العزيمة ،وتعني قوة الارادة، وقال تعالى: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ)، (50) الذاريات،
وفي السنة المطهرة أيضًا كثير من النصوص التي تحث على العزيمة الصادقة، وتندب للهمة العالية؛ ففي مسند أحمد: (أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لاَ يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَفْعَلْ». وأيضًا: قوله -عليه الصلاة والسلام-: “إِذَا تَمَنَّى أَحَدُكُمْ فَلْيُكْثِرْ، فَإِنَّمَا يَسْأَلُ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ” (رواه الطبراني). وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدعو الله أن يعينه على المضي في عزمه، ويطلب منه التوفيق والسداد على ذلك، فكان يَقُولُ فِي صَلاَتِهِ: “اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الأَمْرِ، وَالْعَزِيمَةِ عَلَى الرُّشْدِ” (رواه النسائي)؛ والمراد بذلك لزوم طريق الرشد، ودوامها والاستقامة عليها.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
وفي المستدرك للحاكم: (عن أم سلمة رضي الله عنها: عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا ما سأل محمد ربه: اللهم إني أسألك خير المسألة وخير الدعاء وخير النجاح وخير العمل وخير الثواب وخير الحياة وخير الممات وثبتني و ثقل موازيني وحقق إيماني وارفع درجاتي وتقبل صلاتي واغفر خطيئتي وأسألك الدرجات العلى من الجنة اللهم إني أسألك فواتح الخير وخواتمه وجوامعه وأوله وظاهره وباطنه والدرجات العلى من الجنة آمين اللهم إني أسألك خير ما آتي وخير ما أفعل وخير ما أعمل وخير ما بطن وخير ما ظهر والدرجات العلى من الجنة آمين، اللهم إني أسألك أن ترفع ذكري، وتضع وزري وتصلح أمري وتطهر قلبي وتحصن فرجي وتنور لي قلبي وتغفر لي ذنبي، أسألك الدرجات العلى من الجنة آمين اللهم إني أسألك أن تبارك لي في نفسي وفي سمعي وفي بصري وفي روحي وفي خلقي وفي خلقي وفي أهلي وفي محياي وفي مماتي وفي عملي فتقبل حسناتي وأسألك الدرجات العلى من الجنة آمين)، وفي سنن ابن ماجه: (عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ لِرَجُلٍ «إِذَا أَخَذْتَ مَضْجَعَكَ أَوْ أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَقُلِ اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ لاَ مَلْجَأَ وَلاَ مَنْجَى مِنْكَ إِلاَّ إِلَيْكَ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ وَنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ فَإِنْ مِتَّ مِنْ لَيْلَتِكَ مِتَّ عَلَى الْفِطْرَةِ وَإِنْ أَصْبَحْتَ أَصْبَحْتَ وَقَدْ أَصَبْتَ خَيْرًا كَثِيرًا ».
وينبغي على المسلم أن يكون حازماً في أمره، ماضياً في عزمه، غير متردد فيه؛ فإن التردد والحيرة ليس من شيم الرجال، ولا من أخلاقهم، وما دام المسلم لا ينوي إلا خيراً، ولا يعزم على فعل شر، فإنه لا ينبغي له التردد والتحير، يقول الله تعالى: (فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) [آلعمران:159]؛ أي: إذا عزمت على أمر من الأمور، بعد الاستشارة فيه، فتوكل على الله في تنفيذه، واعتمد على حول الله وقوته في تطبيقه، ولا تتردد في ذلك، وتبرأ من حولك وقوتك، وتوكل على الله تعالى؛ فإن الله يحب المتوكلين عليه، الملتجئين إليه.
فاللهم افتح لنا خزائن رحمتك، ونسألك رحمة لا نشقى بعدها أبدا، وارزقنا من فضلك الواسع رزقًا حلالًا طيبًا مباركا فيه، ولا تحوجنا، ولا تفقرنا إلى أحد سواك، وزدنا لك شكرًا، وإليك فقرًا، وبك عمّن سواك غنىً وتعفّفًا.
الدعاء