خطبة عن ( فوائد خلق القناعة وثمراته)
يناير 13, 2016خطبة عن (الأسباب المعينة على خلق القناعة)
يناير 13, 2016الخطبة الأولى ( صور من قناعة الرسول والسلف الصالح)
الحمد لله رب العالمين .. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والإيمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام.. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.. نشهد أنه بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
في سنن ابن ماجة : ( عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ « قَدْ أَفْلَحَ مَنْ هُدِىَ إِلَى الإِسْلاَمِ وَرُزِقَ الْكَفَافَ وَقَنِعَ بِهِ ».
إخوة الإسلام
مما يعين المسلم على خلق القناعة : الاقتداء بأصحاب القناعة والرضا، والاطلاع على أحوالهم ، وأولهم وأعظمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد روى مسلم في صحيحه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: ((وَرَفَعْتُ صَوْتِي فَأَوْمَأَ إِلَىَّ أَنِ ارْقَهْ فَدَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ مُضْطَجِعٌ عَلَى حَصِيرٍ فَجَلَسْتُ فَأَدْنَى عَلَيْهِ إِزَارَهُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ وَإِذَا الْحَصِيرُ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ فَنَظَرْتُ بِبَصَرِى فِي خِزَانَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَإِذَا أَنَا بِقَبْضَةٍ مِنْ شَعِيرٍ نَحْوِ الصَّاعِ وَمِثْلِهَا قَرَظًا فِي نَاحِيَةِ الْغُرْفَةِ وَإِذَا أَفِيقٌ مُعَلَّقٌ – قَالَ – فَابْتَدَرَتْ عَيْنَايَ قَالَ : « مَا يُبْكِيكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ ». قُلْتُ يَا نَبِيَ اللَّهِ وَمَا لِي لاَ أَبْكِى وَهَذَا الْحَصِيرُ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِكَ وَهَذِهِ خِزَانَتُكَ لاَ أَرَى فِيهَا إِلاَّ مَا أَرَى وَذَاكَ قَيْصَرُ وَكِسْرَى فِي الثِّمَارِ وَالأَنْهَارِ وَأَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَصَفْوَتُهُ وَهَذِهِ خِزَانَتُكَ. فَقَالَ « يَا ابْنَ الْخَطَّابِ أَلاَ تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَنَا الآخِرَةُ وَلَهُمُ الدُّنْيَا ». قُلْتُ بَلَى ). و(القَرَظ) هو ورَق السَّلَم تدبغ به الجلود. (أفيق) جلد لم يدبغ. وأما مسكنه صلى الله عليه وسلم؛ فبيوت من طين، سقفُها من جريد النخل، قصيرة متقاربة. وروى البخاري في الأدب المفرد عن الحسن البصري قال: “كنتُ أدخل بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في خلافة عثمان بن عفان، فأتناول سُقُفَها بيدِي”.
أيها المسلمون
أما عن قناعة آل محمد صلى الله عليه وسلم: فلقد ربى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم أهله على القناعة بعد أن اختار أزواجه البقاء معه، والصبر على القلة، والزهد في الدنيا، حينما خيّرهن بين الإمساك على ذلك، أو الفراق والتمتع بالدنيا، كما قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 28، 29]. فاخترن – رضى الله عنهن – الله ورسوله والدار الآخرة، وصبرْن على لأواء الدنيا، وضعف الحال، وقلة المال، طمعًا في الأجر العظيم من الله الكريم سبحانه. وروى البخاري في صحيحه عَنْ عَائِشَةَ – رضى الله عنها – قَالَتْ مَا أَكَلَ آلُ مُحَمَّدٍ – صلى الله عليه وسلم – أَكْلَتَيْنِ فِي يَوْمٍ ، إِلاَّ إِحْدَاهُمَا تَمْرٌ “. وفي الصحيحين عَنْ عَائِشَةَ – رضى الله عنها – قَالَتْ : مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ – صلى الله عليه وسلم – مُنْذُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ مِنْ طَعَامِ الْبُرِّ ثَلاَثَ لَيَالٍ تِبَاعًا ، حَتَّى قُبِضَ . “.
أيها المسلمون
أما عن قناعة السلف الصالح: فعلى القناعة أيضا ربى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، فكانوا أصحاب قناعة ورضا، فما كانوا يتنافسون على الدنيا، ولا يتنازعون حولها، وإنما كانوا يتنافسون في الخيرات والطاعات. تركوا ديارهم وأموالهم وأراضيهم. في مكة وما حولها، ليهاجروا إلى الله ورسوله، إلى المدينة النبوية حيث لا مال لهم هناك ولا أهل ولا متاع، فكان منهم من يربط على بطنه الحجر من شدة الجوع، وقد كان في مكة يأكل أشهى الطعام وألذ الطعام. وكان منهم من لا يجد من اللباس إلا ما يستر عورته، وقد كان في مكة يلبس أفخر الثياب وأجملها… فأي قناعة أعظم من هذه؟.. روى البخاري في صحيحه عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ رَأَيْتُ سَبْعِينَ مِنْ أَصْحَابِ الصُّفَّةِ ، مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ عَلَيْهِ رِدَاءٌ ، إِمَّا إِزَارٌ وَإِمَّا كِسَاءٌ ، قَدْ رَبَطُوا فِي أَعْنَاقِهِمْ ، فَمِنْهَا مَا يَبْلُغُ نِصْفَ السَّاقَيْنِ ، وَمِنْهَا مَا يَبْلُغُ الْكَعْبَيْنِ ، فَيَجْمَعُهُ بِيَدِهِ ، كَرَاهِيَةَ أَنْ تُرَى عَوْرَتُهُ “. وروى ابن ماجة في سننه (عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ اشْتَكَى سَلْمَانُ فَعَادَهُ سَعْدٌ فَرَآهُ يَبْكِى فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ مَا يُبْكِيكَ يَا أَخِي أَلَيْسَ قَدْ صَحِبْتَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَلَيْسَ ، أَلَيْسَ ، قَالَ سَلْمَانُ مَا أَبْكِى وَاحِدَةً مِنَ اثْنَتَيْنِ مَا أَبْكِى صَبًّا لِلدُّنْيَا وَلاَ كَرَاهِيَةً لِلآخِرَةِ وَلَكِنْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَهِدَ إِلَىَّ عَهْدًا فَمَا أُرَانِي إِلاَّ قَدْ تَعَدَّيْتُ. قَالَ : وَمَا عَهِدَ إِلَيْكَ قَالَ :عَهِدَ إِلَىَّ أَنَّهُ يَكْفِى أَحَدَكُمْ مِثْلُ زَادِ الرَّاكِبِ وَلاَ أُرَانِي إِلاَّ قَدْ تَعَدَّيْتُ ،وَأَمَّا أَنْتَ يَا سَعْدُ فَاتَّقِ اللَّهَ عِنْدَ حُكْمِكَ إِذَا حَكَمْتَ وَعِنْدَ قَسْمِكَ إِذَا قَسَمْتَ وَعِنْدَ هَمِّكَ إِذَا هَمَمْتَ. قَالَ ثَابِتٌ فَبَلَغَنِي أَنَّهُ مَا تَرَكَ إِلاَّ بِضْعَةً وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا مِنْ نَفَقَةٍ كَانَتْ عِنْدَهُ.). والحديث صححه الألباني في صحيح ابن ماجه.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( خلق القناعة ) 4
الحمد لله رب العالمين .. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والإيمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام.. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.. نشهد أنه بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
وللقناعة فوائد كثيرة ونتائج جليلة، تعود على المرء بالسعادة والراحة والأمن والطمأنينة، ومن تلك الفوائد: 1- فالقناعة دليل على قوة الإيمان بالله سبحانه وتعالى، دليل على صدق الثقة بالله والرضا بما قدّر وقَسَم، دليل على قوة اليقين بما عنده سبحانه وتعالى. قال الحسن البصري رحمه الله تعالى: “إن من ضعف يقينك أن تكون بما في يدك أوثقَ منك بما في يد الله عز وجل”. 2- بالقناعة يتحقق الشكر: فمن قنع برزقه شكر الله تعالى عليه، ومن احتقر رزقه قصَّر في شكر ربه سبحانه، وربما جزع وتسخط- والعياذ بالله- ” فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- : « يَا أَبَا هُرَيْرَةَ كُنْ وَرِعًا تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ وَكُنْ قَنِعًا تَكُنْ أَشْكَرَ النَّاسِ ». أخرجه ابن ماجة في سننه ، 3- والقناعة سبيل إلى الحياة الطيبة: فيا من تريد الحياة الطيبة الهادئة المطمئنة؛ عليك بالقناعة، فإن الحياة الطيبة في القناعة. قال تعالى: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 97]، وقد ورد عن علي وابن عباس والحسن رضي الله عنهم أنهم قالوا : “الحياة الطيبة هي القناعة”. وفي هذا المعنى قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى: “من قنع طاب عيشه، ومن طمع طال طيشه “. وفي القناعة حياة طيبة؛ لأنها تريح الإنسان من تعب الركض وراء الدنيا وزينتها، وتريح النفس من الهم والحزن والجزع على ما فاته منها، لأنه يعلم يقينا أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه. وقد قال ربنا سبحانه وتعالى : ﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾ الحديد 22 :23. وفي القناعة حياة طيبة؛ لأنها تطهّر القلبَ وتريحه من كثير من الأمراض التي تصيبه بسبب التنافس على الدنيا والتنازع عليها، كالحسد، والحقد، والكراهية والبغضاء… كما أنها وقاية للعبد من كثير من الذنوب والمعاصي التي تفتك بالمجتمع وتقوض بنيانه وتمزق وحدته؛ كالغيبة، والنميمة، والكذب، وشهادة الزور، والقتل، والسرقة وغيرها من الخصال الذميمة والآثام العظيمة، التي غالبا ما يكون الحامل على الوقوع فيها حب الدنيا واستجلابها والحرص عليها. لذا قال بعض الحكماء: “وجدت أطول الناس غما الحسود، وأهنأهم عيشًا القنوع”. وقال القائل:
أرفه ببال فتى أمسى على ثقة أن الذي قسم الأرزاق يرزقه
فالعرض منه مصون لا يدنسه والوجه منه جديد ليس يخلقه
إن القناعة من يحلل بساحتها لم يلق في دهره شيئا يؤرقه
ونستكمل الحديث في لقاء قادم إن شاء الله
الدعاء